مسيرة الحضارة العربية الإسلامية من الاقتباس إلى الأصالة والإبداع
كاتب الموضوع
رسالة
Admin Admin
عدد المساهمات : 308 تاريخ التسجيل : 13/10/2012 الموقع : starmovies.yoo7.com
موضوع: مسيرة الحضارة العربية الإسلامية من الاقتباس إلى الأصالة والإبداع الخميس أكتوبر 18, 2012 12:55 am
لمعالي الأستاذ الدكتور / أحمد إياد الشطي وزير الصحة بالجمهورية العربية السورية والأستاذ الدكتور / برهان العابد
مرت الحضارة العربية الإسلامية بمراحل ثلاث قبل أن تنضج وتبدع وتسهم في بناء حضارة الإنسان أولها مرحلة الترجمة والاقتباس والتمثل التي دامت طوال العصر العباسي الأول وتلتها مرحلة الإبداع والخلق (1) أما المرحلة الثالثة فكانت حقبة العالمية حين أخذ الغرب ينقل إلى لغاته العلوم التي حصلها العرب والتي أبدعوها .
ففي العصر الأموي بدأت حركة ترجمة فردية محددة على يد الأمير خالد بن يزيد الذي دعا بعض علماء مدرسة الإسكندرية إلى دمشق لكي ينقلوا له بعض كتب الإغريق في الطب والفلك والكيمياء ويقول ابن خلكان: كان خالد عالما بالطب والكيمياء وكتب في هذين العلمين وتعلم الصنعة من الراهب اليوناني (مريانوس) . ويؤكد صاحب الفهرست بأن هذه الترجمات هي الأولى من أية لغة منذ ظهور الإسلام (2).
ثم أمر الخليفة عمر بن العزيز بترجمة كتاب طبي من السريانية هو كناش (أهارون) لضرورات عملية بحتة. وبعد نصف قرن استؤنف هذا العمل على نطاق أوسع وأعم جعل من القرن التاسع عصرا فريدا من نوعه في تاريخ الإنسانية.
ففي نهاية القرن الثامن الميلادي لم يكن بحوزة العرب من الثروة العلمية إلا ترجمة لموسوعة طبية وكتب فلكية ولكن لم ينته القرن التاسع إلا وقد تمثلوا كل علوم اليونان وأصبح لديهم علماء من الطراز الأول. فقد تعرفوا على مدرسة جنديسابور التي لعبت الدور الرئيسي في الحركة العلمية التي كانت بغداد مسرحها كما زودتها بخميرة حركت العالم الإسلامي برمته (3).
كان مرض المنصور واستدعاء الأطباء من جنديسابور على رأسهم جرجس بن جبرائيل الشرارة التي إضاءات مشعل عصر نقل العلوم اليونانية والهندية والفارسية والسريانية والقبطية إلى اللغة العربية. فقد أمر المنصور طبية بترجمة بعض الكتب الإغريقية في الطب والفلك والتنجيم ثم مشى حفيده الخليفة هارون الرشيد على خطاه فوسع العمل وأكثر من التراجمة وجلب الكتب الإغريقية إلى بغداد شراء واستنساخا وغنائم حرب وفدية أسرى شملت كتبا في الطب والهندسة والرياضيات والفلك والتنجيم.
ففي هذا العهد كان من أشهر التراجمة ابن المقفع الذي يقترن اسمه بترجمة كتاب كليلة ودمنة. ويذكر ابن النديم بأن الفرس ترجموا إلى لغتهم في غابر الزمان كتبا بالمنطق والطب نقلها ابن المقفع إلى العربية. ويؤكد ذلك وجود عدد كبير من الكلمات الطبية الفارسية التي بقيت مستعملة في الكتب العربية إما كما هي أو بعد تعديل بسيط. كما ترجم محمد بن إبراهيم الفرازي كتاب السند هند في الفلك وقد اختصره فيما بعد الخوزامي ويذكر ابن القفطي أن العرب نقلوا عن الهند كتبا في الموسيقا والحساب (4) هذا وترجمت من اليونانية والسريانية كتب أرسطو في المنطق وكتاب المجسطي في الفلك. ومن أبرز المترجمين في هذه الفترة يوحنا بن البطريق وقسطا بن لوقا ويوحنا ابن ماسويه وقد ألف هؤلاء النقلة كتبا كثيرة في الطب والفلك والفلسفة والرياضيات إضافة إلى ما ترجموه وشرحوه. وبدأ الناس بالإفادة من الكتب المترجمة وتداولوها، على رأسهم المعتزلة، إذ اتصلت بالكتب الجديدة وتعرفت على أرسطو وتأثرت أبحاثهم بالمنطق (5) وبدا هذا التأثير جليا في جميع الكتب التي ظهرت في ذلك العهد والمثل على ذلك كتاب سيبويه الذي كان ترتيبه وتبويبه منطقيا . وفي عيون الأنباء في طبقات الأطباء مسرد لأسماء النقلة يتضمن خمسين منهم إضافة إلى من نقلت له كتب وترجمت باسمه من أكابر الأطباء كيوحنا بن ماسويه وجبرائيل بن بختيشوع بن جبرائيل وداوود بن سيرابيون (6).
وفي زمن الخليفة المأمون كان أشهر التراجمة على الإطلاق حنين بن إسحق الذي يعد مدرسة كاملة إذ كان يشرف في بيت الحكمة على عدد كبير من المترجمين والنساخ ويصلح أخطاءهم ويزودهم بالكتب النادرة التي يجمعها بنفسه ويسعى للحصول عليها ويذكر أنه رحل في نواحي العراق وسافر إلى الشام والإسكندرية وبلاد الروم يجمع الكتب النادرة (7).
لم يكتف حنين بن إسحق بالترجمة بل قام بتأليف كتب في الطب والمنطق والطبيعة وفلسفة أفلاطون وأرسطو ( ووضع الشروح لما ترجم ولخص المطولات وصحح تراجم السابقين. ويقول مانفرد أولمان (Manfred Ullmann) إنه أسهم في تطوير اللغة العربية وجعلها لغة علوم فهو لم يغن المصطلحات العلمية بإعطاء أشكال جديدة للكلمات أو باستعمال كلمات أجنبية فحسب ولكنه أدخل طريقة التحليل - التركيب التي جعلت من العربية أداة قادرة على التعبير عن أفكار مجردة معقدة وأن هذا الإنجاز عمل فلسفي من الطراز الأول يستحق كل تقدير لأنه لم يلق أية مساعدة من معجميين محترفين فقد كانوا في ذلك الزمن مهتمين بالشعر البدوي وبتفسير القرآن (9). ومن حسن الحظ أن هذه الحركة الجليلة التي قام بها طوال حياته ظلت تسير وتعمل بعد مماته على يد ولديه وتلاميذه (10).
إن أكثر ما ترجمه حنين كان من الكتب الطبية وخاصة كتب جالينوس الستة عشر )كان بعضها من نقل حبيش) كما نقل إلى اللغة العربية سبعة وخمسين كتابا اشترك في نقلها تسعة مترجمين يذكر أسماءهم ابن النديم (11) إضافة إلى تصحيح سبعين كتابا ترجمها تلاميذه إلى العربية، وفي عيون الأنباء ثبت الكتب التي ترجمها وألفها وصلحها وشرحها في مختلف العلوم ملأت صفحات كثيرة ونلحظ من خلال مراجعة التاريخ بأن حركة الترجمة التي دامت قرنين من الزمن ابتدأها الحكام لكنها تنامت وأصبحت حركة شعبية عامة دخلت في صميم حياة وتبناها وغذاها مئات منهم جلهم من الميسورين والأطباء والتجار والوراقين. ويقول جرجي زيدان في هذا الصدد: واقتدى بالمأمون كثيرون من أهل دولته وجماعة من أهل الوجاهة والثروة في بغداد فتقاطر إليها المترجمون من أنحاء الجزيزة و العراق والشام وفارس وفيهم النساطرة واليعاقبة والصابئة والمجوس والروم والبراهمة يترجمون من اليونانية والفارسية والسريانية والسنسكريتية و النبطية واللاتينية وغيرها. وكثر في بغداد الوراقون وباعة الكتب وتعددت مجالس الأدب والمناظرة وأصبح هم الناس البحث والمطالعة وظلت تلك النهضة مستمرة بعد المأمون (13).
ويذكر ابن أبي أصيبعة أسماء أحد عشر من الذين غذوا حركة الترجمة بمالهم وجهدهم ويقول بأن محمد بن عبد الملك الزيات كان يقارب عطاؤه للنقلة والنساخ في كل شهر ألفي دينار ونقلت باسمه كتب كثيرة (14).
لقد انتشرت الكتب التي ترجمت بين الناس فتداولوها ونسخوها وقرءوها وأنشأت الدولة دورا للكتب في كل مكان. ففي عام 891م أحصى مسافر عدد دور الكتب في بغداد فكانت أكثر من مائة (15) . وكان في سوق الكتب عند بوابة البصرة ببغداد أكثر من مائة متجر لبيع الكتب (16) .
فمن هذا الوسط التجاري برز علماء ألفوا الكتب وصنفوها، على رأسهم محمد بن إسحق بن النديم البغدادي صاحب الفهرست، الكتاب الذي يحوي أسماء جميع الكتب والترجمات التي ظهرت خلال القرون الهجرية الأربعة الأولى.
لقد شجع الخلفاء المسلمون هذه الحركة العلمية الشاملة بدافع من حبهم الشخصي للعلم وشعورهم بالمسئولية تجاه الدين الذي يحث على طلب العلم ويرفع من منزلة العلماء. ويقول الدكتور فؤاد سيزكين في هذا المعني: لا بد من فهم موقف الدين الإسلامي من العلم، وموقفة هذا كان المحرك الكبير لا للحياة الدينية فحسب بل للحياة الإنسانية من جميع جوانبها وموقف الإسلام هذا هو الدافع الأكبر في السعي ووراء العلوم وفتح الأبواب للوصول إلى المعارف الإنسانية ولولاه لا نحصرت الترجمة في الأشياء الضرورية للحياة العملية وحدها (17)، ولعل أكبر دليل على أن رغبة المسلمين في العلم لم تنبع من حاجاتهم المادية هو انكبابهم على تحصيل العلوم النظرية البحتة منذ بزوغ شمس هذه الحركة في عهد المنصور فقد ذكر حاجي خليفة أن المنصور أرسل سفراء إلى القسطنطينية جلبوا منها كتب إقليدس وكتبا بالفيزياء ترجموها وقرءوها بسرعة فائقة (18).
كما أن العناية بالفلسفة بدأت في وقت مبكر فقد طرق بابها أبو يوسف يعقوب بن إسحق الكندي منذ أوائل القرن التاسع وإليه يعود الفضل في نشر التفكير الحر المبني على فلسفة أرسطو.
إن تمثل الناس السريع لهذه الثقافة الجديدة على الإسلام أدت إلى ظهور تيار فكري اجتماعي جديد والتعرف على الأفكار الخارجة عن نطاق التفكير الديني جرف فيمن جرف الخليفة المأمون الذي كان لدعمه هذا المنحى الجديد تأثير في حدوث اضطرابات ومع ذلك وبالرغم من معارضة المحافظين فقد عاشت فلسفة أرسطو وترعرعت بين المفكرين والكتاب العرب وعلى رأسهم الفارابي الذي كرس الكثير من أعماله لكتب أرسطو كشرح كتاب البرهان وشرح كتاب الخطابة وشرح المقالة الثانية والثامنة من كتاب الجدل والمغالطة والقياس وغيرها من الموضوعات المتنوعة التي ملأت صفحتين كبيرتين من كتاب عيون الأنباء في طبقات الأطباء (19) . كما سار ابن سينا على خطاه فحاول التوفيق بين الدين والمذاهب الفلسفية وبذلك وضع حجر الأساس للبناء الذي شاده ابن رشد بعد قرن من الزمن. ولقد بدا تأثيره واضحا على كثير من المراكز العلمية الأوربية وخصوصا الحركة المدرسية (السكو لاستيك) الممثلة بألبير الكبير ولعل من أكبر المفكرين العرب الذين أثروا في توجيه الفكر الأوروبي أبو حامد الغزالي الذي ساقتة مغامراته في فلسفة أرسطو وتفكيره العقلاني إلى النزوع إلى الشك والالتجاء إلى التأمل الروحي والعزلة والتصوف وقد ترجمت دراساته المتعلقة بالمنطق والفيزياء وما بعد الطبيعة إلى اللاتينية في القرن الثاني عشر في طليطلة (20).
لقد وصلت الفسلة العربية الإسلامية إلى قمة تطورها في أسبانيا على يد ابن رشد الذي بدت فلسفته متناقضة فيما يتعلق بتأثيرها على الشرق والغرب. فبينما دخلت إلى أعماق الفكر الأوروبي في القرون الوسطى وبقيت مسيطرة حتى قيام العلم التجريبي لم تحظ بنفس المنزلة والقبول في العالم الإسلامي (21) وأكثر من ذلك فقد تعرض ابن رشد للنقد اللاذع وإلى الاتهام بالزندقة والإلحاد من قبل الفقهاءالمسلمين الذين أو غروا عليه صدر المنصور أمير الموحدين فنفاه إلى مراكش وأحرق بعض كتبه ثم رضي عنه وأذن له بالعودة إلى وطنه (22) ومع ذلك فقد اعتبره أتباع الفلسفة الإنسانية (هومانيست) في الغرب أكبر معلق وشارح لأرسطو في التاريخ واعتبرت أعماله في علم النفس والمنطق والإلهيات والفقه كأرفع إسهام في ثقافة القرون الوسطى (23). إن تأثير ابن رشد على آراء القديس توما الإكويني واضح المعالم بالرغم من نقد هذا الكاهن له والتقليل من شأنه فقد ألف القديس توما كتبه بعد أن شاعت بين الرهبان دروس الفلاسفة الأندلسيين وفلاسفة المشرق من المسلمين ولم يكن في كل ما كتب في الله والروح ووسائل الوصول إلى الحقيقة رأي واحد لم يتناوله قبله ابن سينا والغزالي وابن رشد على الخصوص )24 ) . فقد تأثر بأفكاره التي تؤمن باستعمال المذاهب الفلسفية كأدوات لدعم الدين وهي الفكرة التي سيطرت على عقل هذا القديس وأتته مباشرة عن طريق أستاذه ألبير الكبير وترجمات ميشيل سكوت التي قام بها في طليطلة قبل سنوات من مولد القديس توما (25) وتجدر الإشارة إلى أنه بالرغم من محاربة الكنيسة لتفاسير ابن رشد فقد أوصى أساتذة جامعة باريس طلابهم علنا بدراستها (26) .
ومن أوائل العلوم التي طرق العرب بابها وأبدعوا فيها الكيمياء وهي بلا شك وليدة مدرسة الإسكندرية وقد وجدت بدمشق أرضا خصبة فقد تعهدها رجلان ينتميان إلى أشرف البيوت خالد بن يزيد والإمام جعفر الصادق الذي أنجب تلميذا ارتبط اسمه مع الكيمياء أبد الدهر وهو جابر بن حيان الذي يعتبر بحق أول رائد لهذا العلم يشهد بذلك أبوبكر الرازي الذي كان يقول: قال أستاذنا أبو موسى جابر بن حيان (27) وهو أول من بشر بالمنهج التجريبي إذ أن التجربة تصدرت منهجه العلمي فقد أورد في كتاب الخواص الكبير "والله قد عملته بيدي وبعقلي من قبل وبحثت عنه حتى صح وامتحنته فما كذب" هذا وقد عرف جابر كثيرا من العمليات الكيمياوية ووصفها وصفا دقيقا كالتبخير والتقطير والتكليس والصهر والتبلور والتصعيد ويعود الفضل له في تحضير كثير من المواد الكيمياوية والحموض كما ينسب إليه تحضير مركبات كيمياوية ككربونات الصوديوم والكالسيوم والصودا الكاوية (28).
لقد اعتبر جابر بن حيان أحد كبار علماء القرون الوسطى الذين مهدوا بأعمالهم الطريق أمام ظهور العلوم الحديثة واعتبرت منزلته من تاريخ الكيمياء كمنزلة أبقراط من تاريخ الطب (29) وأن إدخال التجربة في دراسة الكيمياء على يد جابر بن حيان كانت أبرز إبداع حققه العرب في فجر نهضتهم العلمية فقد أضفوا على هذا العلم أصالة البحث العلمي وخلصوا دراساته من السرية والغموض والرمزية التي أحاطت به عند أسلافهم من علماء الإسكندرية بوجه خاص واصطنعوا له منهجا استقرائيا سليما يعتمد على الملاحظة الحسية والتجربة العلمية (30).
مسيرة الحضارة العربية الإسلامية من الاقتباس إلى الأصالة والإبداع